إن اضطراب الشخصية الحدّية، أو اضطراب الشخصية غير المستقرة انفعاليا borderline personality disorder هو أحد الاضطرابات النفسية التي تتحدى العلاج.
ويعاني من هذا الاضطراب نحو 2% من عموم السكان، إلا أن هذه النسبة تصل إلى 20% من المصابين بأمراض عقلية من الذين يدخلون إلى المستشفى.
شخصية غير مستقرة
ويتكون هذا الاضطراب من ثلاثة عناصر: الإحساس غير المستقر بالذات، والأفكار والتصرفات المندفعة، والتغيرات المفاجئة في المزاج.
وبالنتيجة، فإن المصابين باضطراب الشخصية الحدّية، يقعون فجأة ضحية للكآبة، ويصبحون منزعجين، قلقين، أو غاضبين جدا، من دون سبب واضح.
وهم يخلقون النزاعات باستفزازاتهم، حتى إن كانوا خائفين من هجران الآخرين لهم، كما أنهم منغمسون في عاداتهم المدمرة، مثل إيقاع الأذى الذاتي بأنفسهم، أو الإدمان على المخدرات، ولديهم نسبة خطر أعلى تفوق متوسط خطر الانتحار لدى عموم الناس.
وقد خلصت جمعية الأمراض العقلية الأميركية إلى نتيجة مفادها أن من الأفضل علاج اضطراب الشخصية الحدّية بالعلاج النفسي الذي تضاف إليه الأدوية حسب الضرورة، وذلك بهدف التخلص من أعراضه.
وقد تساعد في هذا المجال عدة أنواع من العلاجات النفسية مثل العلاج الإدراكي (المعرفي) أو السلوكي.
وحديثا، تشير دراسة صغيرة طويلة المدى، تم تصميمها خصيصا، إلى طريقة غير معروفة نسبيا هي علاج ذهني يعرف باسم «علاج التعقل» أو «العلاج المستند إلى العقل» mentalization-based treatment، تبدو فعالة في علاج المصابين باضطراب الشخصية الحدّية.
ويستند هذا العلاج إلى افتراض بأن المرضى باضطراب الشخصية الحدّية يعانون من المصاعب في قدراتهم على «ممارسة التفكير العقلي» mentalize، أو عند تقييم أنفسهم أو الآخرين، انطلاقا من عواطفهم أو معالجتهم الفكرية الذاتية (مثل الأحاسيس والمعتقدات والرغبات).
وقد يكون هؤلاء المرضى في وضع تقل فيه قدراتهم على «ممارسة التفكير العقلي» عند تعاملهم مع الأشخاص الآخرين، خصوصا أولئك الأقرب إليهم.
وبالنتيجة فإنهم قد يسيئون فهم كلمات الآخرين أو أفعالهم ويجابهونها بردات فعل قوية.
أصول النظرية
وقد طور الدكتوران بيتر فوناغي وأنتوني بايتمان الباحثان في جامعة يونيفرسيتي كوليدج لندن «علاج التعقل»، وهو علاج يستند إلى نظريتهما حول كيفية تمكن الأطفال من امتلاك قدراتهم للتفكير العقلي.
ووفقا لهذه النظرية فإن «التعقل» mentalization، ينمو ويتطور عندما يقوم أحد الوالدين أو أحد الأشخاص المسؤولين عن رعاية الطفل بمساعدة الطفل الصغير على تحويل تجربته البدنية (مثل البكاء) إلى فكرة أو إحساس واعٍ (مثل الحزن)، وذلك عبر «انعكاس مرتبط وملحوظ» من المشاعر.
والاستجابة التي تكون في نفس الوقت ملحوظة (مبالَغا فيها أو مشوهة قليلا) ومرتبطة (دقيقة وسريعة)، تتيح للطفل الصغير فهم تجربته بشكل أفضل.
وتوجد ثلاث آليات بمقدورها أن تؤدي إلى انحراف النمو السليم في قدرات التفكير العقلي:
ـ نقائص النمو: وهذه يمكن أن تظهر بسبب عدم تطوير الطفل والشخص الذي يرعاه، لارتباط عاطفي قوي بينهما، أو لأن راعي الطفل لم يعكس بشكل مناسب مشاعر الطفل بهدف مساعدته في احتواء الألم أو تخفيفه.
ـ خطوة دفاعية: بعض المرضى من الذين تعرضوا للانتهاكات أو الصدمات في طفولتهم، قد يتجنبون «التعقيل» كخطوة لحماية أنفسهم، وبهذا فإنهم لا يتقبلون الأفكار الخبيثة للشخصيات المسيئة.
ـ عوامل بيولوجية: التغيرات الجينية أو الإجهادات التي أثرت على وظيفة الدماغ في أثناء النمو، قد تؤثر على الاستجابة للتوتر، وتسبب مزاجا متغيرا، وتؤثر بطرق أخرى تؤدي إلى إحداث خلل في الشبكات العصبية التي تربط بين المشاعر والأفكار.
والمرضى الذين ليس بمقدورهم ممارسة التفكير العقلي، أو الذين يفقدون هذه القدرة في بعض الحالات، يطورون طرقا أخرى لكي يشعرون بتجاربهم. ففي «حالة التكافؤ النفسي» psychic equivalence mode يفترض المريض أن ما يوجد في ذهنه يعكس فعلا ما يوجد في العالم.
أما في «حالة التظاهر» pretend mode فإن التأمل أو الاستغراق الداخلي يسيطر على المريض بغض النظر عن الواقع الخارجي، ولذلك فقد يكون مهووسا بطرق نقد الذات.
أما في «حالة الموقف المقصود أو الغائي» teleological stance mode، فإن المريض بمقدوره توصيل أحد مشاعره أو أفكاره بواسطة الفعل فقط، مثل التعبير عن الألم بإحداث الأذى في جسمه.
ويهدف العلاج المستند إلى التعقيل إلى مساعدة المريض على تطوير طرق متكيفة أكثر، للتفكير وللتعبير عن العواطف.
نتائج طويلة المدى
في مايو 2008 أعلن الدكتوران بايتمان وفوناغي نتائج دراستهما لـ41 مريضا باضطراب الشخصية الحدّية الذين قسموا عامي 1993 و1994 بشكل عشوائي على مجموعتين: مجموعة العلاج بالتعقيل، ومجموعة الرعاية الطبية العقلية القياسية.
وفي تلك المرحلة انتهت كل العلاجات النشطة للمشاركين.
وفي أحدث تقرير لهما قام الباحثان برصد نتائج المشاركين في تلك الدراسة للنظر إلى ما جرى لهم خلال السنوات الخمس التي أعقبتها.
وكانت النتائج باهرة، ففي مجموعة علاج بالتعقيل حاول 5 من 22 مشاركا، أو 23%، الانتحار خلال فترة السنوات الخمس، مقارنة بـ14 من 19 مشاركا، أو 74% من المشاركين في مجموعة المراقبة الأخرى.
كما تناول المشاركون في مجموعة علاج التعقل أدوية لعلاج الأمراض العصبية لفترة أقل من شهرين مقارنة بالمشاركين في مجموعة المراقبة الذين تناولوها لفترة زادت عن ثلاث سنوات.
كما لوحظت نفس الظاهرة بالنسبة إلى مضادات الاكتئاب.
وربما كان الأمر الأكثر أهمية، هو أنه بعد ثمانية أعوام من المتابعة ظل 13% فقط من المرضى الذين عولجوا بعلاج التعقيل محتفظين بمعايير تشخيص اضطراب الشخصية الحدّية، مقابل 87% من الذين كانوا في مجموعة المراقبة.
ورغم أن هذا النوع من العلاج قد طُور خصيصا لاضطراب الشخصية الحدّية، فإن الخبراء الآخرين يقيّمونه حاليا، بهدف استخدامه في علاج المرضى لعدد من الحالات مثل اضطرابات الأكل، ومساعدة الموظفين من المهنيين في أثناء حدوث الأزمات، ومنع وقوع العنف المدرسي.
mentalization أو «التعقل»
مفهوم في علم النفس طرحه الباحث بيتر فوناغي، وهو من أتباع نظريات فرويد.
ويصف هذا المفهوم قدرة الفرد على فهم الحالة العقلية لذاته وللآخرين بالاستناد إلى سلوكهم المكشوف.
ويرى الباحث، وفقا لما تورده موسوعة «ويكيبيديا» الإنجليزية الإلكترونية، مبدأ التعقيل بوصفه شكلا من أشكال النشاط العقلي المتصوَّر الذي يسمح لنا أن ندرك بأحاسيسنا السلوك البشري ونفسره وفقا لمصنفات حالاتنا العقلية الحقيقية (مثل الاحتياجات، والرغبات، والأحاسيس، والمعتقدات، والأهداف، والتوجهات، والأسباب).
[list=1][*]