إن التدخين ليس حتى بنصف السوء الذي يبدو به، وقد قالها جورج برينتيك، الناشط بحزب «نو ناثينغ» والهجّاء الشهير في القرن التاسع عشر: «إن الكثير من التدخين يقتل الرجال الأحياء ويشفي الخنازير الميتة».
وعلى الرغم من أن تدخين السجائر قد أصبح شبه محرم في المجتمع المعاصر، فإن الأطعمة المدخنة في ذروة رواجها، فيبدو أن الدخان هو النكهة الخامسة (أو السادسة إذا سمحت بإحصاء «الطعم اللذيذ»)، حيث لديه القدرة على تغيير نكهة الطعام الذي يتعرض له والتناقض معها وإبرازها، سواء كان ذلك الطعام المدخن هو سمك السلمون، لحم البقر، الفواكه أو الفلفل الحريف أو الشاي.
وفي علم الأكل فإن الدخان هو الباب المؤدي إلى حجرة أخرى، إلى فراغ غائم يتسم بالحيوية، فراغ يصبح فجأة واعدا وغير محدود، لكنه في نفس الوقت مظلم وخطر.
ويتم تدخين الأطعمة اليوم بغرض إكسابها نكهة أو رائحة مميزة، ولم يكن ذلك هو الحال دائما، لقد كان دائما التدخين جزءا من الطريقة التي نطهو بها على حد علمنا، فمع وفرة اللحوم والأسماك في أوقات معينة من العام والندرة الشديدة التي تهدد الحياة في بعض الأوقات الأخرى.
لجأ أسلافنا إلى تدخين الطعام بغرض حفظه، وذلك حيث إن تعليق اللحم أو السمك على النيران المفتوحة يسّرع المرء من عملية التجفيف ويبقى الذباب بعيدا.
وبعد عملية تدخين طويلة، لن يجف اللحم فقط، لكنه يصبح مغطى ببعض المواد العالقة التي لها قدرة مزدوجة على قتل البكتيريا وتكوين طبقة تعزل الهواء ومن ثم تحميها من الأكسدة، لقد كانت النكهة هي مجرد أثر جانب جيد في عالم تأتي فيه المتعة دائما في المرتبة التالية بعد البقاء.
وفي بلدي النرويج، حيث يبدو فيه تدخين الأطعمة قاعدة وليس استثناء، لم يرتق السلمون المدخن إلى كونه طعاما فاخرا حتى القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر عندما بدأ «لوردات السلمون» البريطانيون والألمان يزورون البلد للصيد في مياهه الغنية.
وليس هناك سبب علمي معروف حتى الآن يجعل الأطعمة المدخنة شهية إلى هذا الحد بالنسبة لنا، فمثلها مثل تدخين السجائر، المسألة ليست منطقية: فلماذا نعرض أنفسنا بتعمد وبكل هذا القدر من الاستمتاع إلى الملوثات التي تعلق بالطعام نتيجة تعرضه للنيران؟
ربما يكون ذلك مغروسا وراثيا بداخلنا من الوقت الذي كانت فيه كل الأطعمة المطهوة مدخنة بدرجة خفيفة وكان كل الطعام غير المطهو غير آمن.
ويوفر الطعام المدخن أنواعا مختلفة من النكهات، لكن عملية التدخين نفسها تبدو غامضة وعصية على الفهم بالنسبة إلى العديد من الطهاة في المنازل.
لقد اكتشفت متعة تدخين الطعام بالمصادفة قبل عشر سنوات في زيارة إلى قبو البيت الذي يحتوي على الشقة التي كنت أعيش فيها، وخلال بحثي عن ماسورة المياه الرئيسية هناك،
اكتشفت حجرة مظلمة، واحدة من تلك الحجرات التي تجعل أوصالك ترتعش، لكنها تمنحك كذلك إحساسا غامضا ومثيرا بأنه ربما يكون هناك كنز مخبأ على مقربة منك.
وقد كان ذلك صحيحا. فبعد أن كبست زر إضاءة النور، ظلت الحجرة مظلمة مثلما كانت: فالجدران مغطاة تماما بالقطران، فقد كانت هذه هي حجرة التدخين لجزارة مهملة منذ زمن بعيد، وبدا وكأن المدخنين ما زالوا يعملون فيه، وبالتالي فقط ذهبت وأحضرت بعض رقاقات الخشب وعدت وأشعلت نارا.
وفي محاولتي التجريبية، أطلقت جرس إنذار الحرائق على الساعة الحادية عشرة مساء وهو ما أسفر عن امتلاء الفناء الخلفي بالجيران القلقين وهم يغالبون النوم.
لكن بعدما بدأت في إغلاق الباب بفعالية أكثر، تقدمت بسرعة. لم تكن عملية التدخين صعبة مع استخدام معدات المحترفين الموجودة، وخلال الشهور التالية عرضت كل الأشياء المحيطة لي - باستثناء جيراني- لتلك الهواية الجديدة: فقد دخنت لحم الخنزير والسلمون وأرجل الحملان والجبن، بل وحتى قاعدة من الآيس كريم وفي محاولة غريبة وغير ناجحة تماما حاولت تدخين آيس كريم الفانيليا. (كانت جيدة فقط عندما حاولت ببساطة تدخين حبوب الفانيليا).
وأكثر النتائج إدهاشا كانت تفاحة خضراء ظلت طازجة مثلما كانت، فقد امتازت بحمضية مقرمشة ومنعشة ممزوجة بذكريات التدخين العميقة والغنية لويسكي أيسلاي.
ولكن التدخين من دون استخدام الأدوات الخاصة يعد أكثر من تحد، لكنه ليس مستحيلا. فالشيء الأكثر أهمية هو أن تعرف حدودك.
وبصفة عامة، فإن هناك تقنيتين أساسيتين: الأولى هي التدخين البارد الذي يتم فيه تدخين الطعام على درجة حرارة أقل من 100 درجة فهرنهايت (37 مئوية) وعادة يتم على درجات معينة أقل من ذلك. وتلك هي الطريقة التي يدخن بها معظم السلمون المدخن ويبقى لحمه ناعما وملمسه يشبه اللحم غير المطهو.
ووفقا لتجاربي، وكل الخبراء والكتب التي استعنت بها فإن التدخين البارد صعب للغاية من دون الأدوات المناسبة مثل وجود حجرة مهملة في القبو. ويمكنك أن تصنع حجرة التدخين الخاصة بك من أجزاء مجانية أو رخيصة مثل ماسورة معدنية قديمة ومبرد، لكن ذلك سوف يستغرق ساعات من البناء وتقييم مدى عملها بكفاءة، وفي اكتساب القدرة على التحكم في درجات الحرارة.
من جهة أخرى، فإن التدخين الساخن يمكن أن يكون أبسط شيء في العالم، فهو مجرد محاكاة لأي وجبة في العصر الحجري.
فاستخدام نيران مفتوحة سوف يفي بالغرض. وإذا كانت لديك شواية، يمكن أن تلقي حفنة من نشارة الخشب أو رقائق الخشب على الفحم المشتعل، ثم غطه لكي تكثف الدخان. (بالنسبة لشواية الغاز، تحتاج إلى وضع النشارة على صينية معدنية فوق الموقد مباشرة).
قبل عامين كنت أصور مشهدا حول الطعام المدخن في حلقة من حلقات مسلسلي التلفزيوني «طهو اسكندنافي جديد».
وكنا نصور في مزرعة منعزلة لا يوجد طريق مؤد إليها، ولم يكن هناك مكان لجهاز تدخين الطعام في مروحيتنا؛ فكل ما كان لدينا هو موقد يستخدم في المعسكرات وإناء وبعض الرقائق الخشبية.
وبإلقاء هذه الرقائق في قاع الإناء وتعليق سمكة سلمون نهرية صغيرة من الأعلى، تمكنا من طهو السمكة بنجاح وتدخينها مثلما كان يستطيع المدخن أن يفعل، لكنني أخشى أن الإناء لن يعود إلى ما كان عليه أبدا.
إن فكرة تدخين الطعام داخل المنزل فكرة لها سحرها، لكنها غير عملية؛ فلا يوجد أمل في أن تتمكن من إضافة النكهة إلى طعامك من دون إضافتها إلى المنزل بأسره.
وقبل أن تحاول، يجب أن تسأل نفسك إلى أي حد تكره أن تكون بالخارج، وهل ستسمح بوجود اثني عشر شخصا يدخن كل منهم علبة سجائر كاملة في مطبخك إذا وعدوك أن يقفوا بالقرب من المروحة أو النافذة.
لقد اختبرت عددا من الأجهزة المنزلية، ومع ذلك أقلعت عن التدخين قبل خمسة عشر عاما، لكنك لن تتوقع ذلك أبدا إذا ما زرتني خلال الأسابيع التي تلت التجارب التي أجريتها.
فقد تسلل قدر كاف من الدخان إلى مطبخي مما جعله يشبه بارات الفقراء قبل منع التدخين. (بالنسبة للأشخاص المغرمين بالأجهزة، يوجد مدخن صغير يمكن حمله باليد ويطلق عليه «سموكينغ غان».
وكمية الدخان الذي يطلقه محدود، وبالتالي يظل تحت السيطرة ويمكنك احتواؤه ببساطة؛ لكنها من جهة أخرى ليست كافية لتدخين الطعام تدخينا جيدا فهي فقط تعطيه نكهة خفيفة.
لكن يمكنك دائما الخداع، فإذا كنت لا تريد أن تدخن الطعام، لكنك تريد نكهة أكثر تنوعا -التي يمكنك الحصول عليها بإضافة السلمون المدخن أو الملح المدخن-، يمكنك في هذه الحالة استخدام بديل سائل التدخين.
لقد كنت دائما أشعر أن الزجاجات التي تحتوي على الدخان المركز الطاغي هي نتيجة لإحدى العمليات الفاسدة مثل تصنيع الفانيليا الصناعية (منتج ثانوي من السيلولوز).
لكن كنت كرشينبوم، أستاذ الكيمياء الزميل بجامعة نيويورك، أخبرني بأن سائل التدخين طبيعي تماما بالقدر الذي يمكن به وضع الدخان في زجاجة بطريقة طبيعية.
ويقول كرشينبوم إنه في البداية كان متخوفا من المنتج، لكنه بعدما أجرى بحوثا حوله لصالح ورشة عمل تابعة للمطبخ التجريبي في نيويورك، اكتشف أنه أكثر قليلا من مجرد سائل تدخين بعناية (بعض الماركات تضيف العسل الأسود والسكر والخل، كما يكون مدونا على العبوة).
ولكن مشكلة سائل التدخين هي سهولة إضافة مقدار كبير للغاية منه وهو ما يجعل الطعام غير مستساغ.
وبينما يحتوي الدخان –كما نعرف- على المواد المسرطنة، فإن عملية تدخين الطعام المنضبطة بالإضافة إلى عملية الفلترة التي تليها تزيل، إن لم يكن جميع تلك المكونات، فعلى الأقل معظمها.
وعلى الأقل من وجهة النظر الصحية فإن أفضل طريقة ربما يكون هو أن تتخيل أنك تدخن بدلا من أن تدخن بالفعل.