أبي..أمي: أنا حر..!!
كثيرًا ما نسمعها من أبنائنا، مبكرًا جدًا من طفل الثالثة أو الرابعة، ونستمتع بنطقه المتأرجح لها جوابًا على نهينا له إن أراد المخالفة أو ارتكاب الأخطاء، فيكون الرد جاهزًا: بل سأفعل..أنا حر..!
ولكنها الحقيقة الكبرى..بالفعل يا ولدي أنت حر..!
عزيزي المربي
الحرية هي حق من حقوق الطفل وحاجة من حاجاته اللازمة، لكي يشب فردًا فعالًا نافعًا لأمته متمتعًا بالنفس السوية والشخصية الشجاعة الأبية.
وإذا كانت أسوأ القيود التي تشل حركتنا نحن الكبار هي القيود غير المرئية، والتي تتمثل في أوهامنا وعاداتنا السيئة، وسيطرة رغباتنا علينا، وقلة الخيارات أمامنا؛ فإن من أوجب واجباتنا كآباء ومربين، أن نربي أبنائنا على القيم والمفاهيم التي تجنبهم تلك القيود، وتجعل منهم جيلًا حرًا أبيًا.
حاجة الطفل إلى الحرية:
تعد حاجة الطفل إلى الحرية والانطلاق تعد من حاجاته الأساسية، كحاجته للنوم، والطعام، والإنجاز، والحب، والقبول، والتقدير، والتملك ..وغيرها.
وهذه الحاجات الأساسية هي ما لا يستغني عنه الإنسان وبحرمانه من إحداها، سيصدر عنه سلوكًا مزعجًا لمن حوله [حتى لا نشتكي، محمد سعيد مرسي، ص(15)].
ماذا تعني الحرية؟
الحرية طريق الإبداع:
لا ينبت الإبداع إلا في مناخ تربوي حر، فالتربية المستبدة لا تنتج أبدًا جيلًا من المبدعين، بينما الحرية تنمي الذكاء وتوقد شرارة الإبداع لدى الأطفال..الحرية تفسح المجال أمامهم للبحث والابتكار والتطوير، وتهيء لهم أجواء الانطلاق نحو القوة والتفوق.
وبدافع الخوف على الأبناء وأنهم مازالوا صغارًا يخطأ كثير من الآباء عندما يضعون أمام أبناءهم أنواعًا لا تنتهي من القيود (ما لم تكن قيودًا شرعية)، ويعتقدون مخطئين أن هذه القيود سوف تنتهي يومًا ما عندما يكبر الأبناء..!
وقد غاب عنهم أن تلك القيود ما هي إلا برمجة يومية للطفل لن يستطيع التخلي عنها بسهولة، وأنها ستحول بينه وبين الكثير من الخيرات و الإنجازات التي يملكون أسبابها. [التربية الإيجابية من خلال إشباع الحاجات النفسية، د.مصطفى أبو سعد، ص(101)].
وهي سبيل الشخصية القوية:
إن شعور الطفل بالحرية والاستقلال يواكب شعوره باحترامه لذاته، وللآخرين من حوله، فالحرية لا تعني الفوضى وعدم الالتزام، ولكنها تعني الكرامة والمسئولية التي نحرص على تنميتها في نفوس أبنائنا، تلك المعاني التي تتجلى لنا في موقف من طفولة الصحابي الفذ عبد الله بن الزبير بن العوام رضي الله عنه وعن أبيه، ذلك الموقف الخالد الذي ينم عن قوة شخصيته وفهمه لحريته، حينما أقبل عمر ففر الغلمان من أمامه، وثبت هو في مكانه لم يفر، فسأله عمر: لِمَ لَم تلحق بهم؟ فقال:"ليس في الطريق ضيقًًا فأوسع لك، ولم أرتكب ذنبًا فأخاف منك"
وهي وسط بين الاستبداد والتسيب:
إن الاستبداد في كل الأمور مذموم، فكيف إذا كان في حقل التربية والتنشئة ؟عندئذ فإن غالب الانعكاسات السلبية في التربية، تظهر آثارها الواضحة والمبكرة في سلوك الأبناء، على شكل مقاومة عنيفة لما نرغمهم عليه، وهذه أهون الآثار التي نتلقاها من أبنائنا لقاء هذه المعاملة الاستبدادية، وأسوأ الآثار ما لا يظهر مبكرًا واضحًا، ولكن يظهر من خلال التخلف الدراسي، أو الانحراف السلوكي، أو المرض النفسي، وهذا الأخير من أخطر النتائج، وحينئذ يصعب العلاج ويطول. [كيف نؤدب أبنائنا بغير ضرب، محمد نبيل كاظم، ص(65)].
ولا تعني الحرية الارتخاء التربوي:
كما أن منح الحرية والاستقلالية للطفل، لا تعني الإهمال وغض البصر عن موعد عودة الأطفال أو حتى التأكد والاستفسار عن الأصدقاء أو الصديقات، فلابد من تتبع ومراقبة الأطفال عن كَثَب، ومناقشتهم باستمرار، ومتابعة سلوكهم، والاهتمام بمشاكلهم، وأن يدرك الأطفال بجلاء ووضوح، حدود حريتهم، وأن الاستئذان من الوالدين ومشورتهم وطاعتهم، لا ينفي أو يتعارض مع حريتهم أو استقلالهم.
أما التسيب وعدم وضع حدود وقواعد للطفل، فمن شأنه أن يخرج لنا رجلًا منفلتًا أسيرًا لرغباته، لا يستطيع أن يطوع حاجاته لتتماشى مع متطلبات رسالته في الحياة. [التربية الخاطئة وعواقبها، زهرة عاطفة زكريا، ص(146)].
أو أن تضع ولدك دائمًا تحت المجهر:
إن تضييق الخناق على الطفل باستمرار، وإشعاره بأنه مراقب طوال الوقت وهو يلعب، أو يأكل، أو يتكلم مع أحد إخوته، معناه أننا نمنعه من التصرف على سجيته وكأننا نريد أن نصبه في قالب..!
والنتيجة الطبيعية لهذا اللون من مصادرة الحرية هو شعوره بالنقص وانعدام الثقة بالنفس والخوف من المسئولية، كما يجعله لا يستطيع التكيف مع أقرانه بسهولة، ويظل يقاوم بشدة السلطة المفروضة عليه من الأسرة أو المدرسة إلى درجة التحدي، ولا يعترف بخطئه أبدًا، ويلجأ إلى الغضب والصراخ والعنف والتهديد، وما ذلك إلا صورة من صور افتقاد الابن للحرية المنضبطة بالتوجيه والإرشاد، ووقوعه تحت طائلة التربية المستبدة. [موسوعة التربية العملية للأسرة، هداية الله أحمد شاش، نقلًا عن دليل التربية الأسرية، د.عبد الكريم بكار، ص(67)، بتصرف].
وأخيرًا ..عزيزي المربي
إن أول طريق التربية الراشدة دائمًا: أن نبدأ بأنفسنا
فاجعل تصرفاتك خاضعة لدينك وقيمك السامقة، لا تكن عبدًا إلا لله تعالى، علم أبنائك حرية الاختيار، وحرية التصرف، واجعل مفرداتهم الفكرية والنفسية:
أستطيع أن أتغير للأفضل.
أعزم على ما أريد، وأحاول النجاح في الوصول إليه.
فإن أردت أن يكون أبناؤك ثمرة لتربية إسلامية صحيحة؛ فلابد أن تربيهم على تذوق طعم الحرية في كل تعاملاتك معهم.
فلنمنحهم إذن الحرية، ولنراقبهم ونحن سعداء بهم إذ يكبرون أحرارًا عظماء، لعل الله تعالى ينصر بهم دينه ويفتح على أيديهم ما أغلق على غيرهم.